بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزلزلة
كل ما هو غير معهود في حياة البشر فهو منكر وقد تكفر به بعض النفوس البشرية الضعيفة . لكن النفس المؤمنة إذا جاءها ذلك في خبر من الله تعالى صدقت وآمنت به دون تردد .
والله تعالى في سورة الزلزلة يخبر عن زلزال للأرض يعمها كلها وتخرج بسببه الأرض ما في بطنها من أموات وكنوز , وتتحدث بما أحدث الناس عليها . فهذا أمر فوق ما تدركه النفس البشرية , ولكن المؤمنة تؤمن وتصدق .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في فضل هذه السورة في الحديث الذي رواة أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن , وإذا زلزلت تعدل ربع القرآن ) رواه الترمذي وقال حديث حسن .
معنى آياتها :
( إذا زلزلت الأرض زلزالها ) إذا أداة تفيد الخبر عن المستقبل , وذلك يدل على أن هذا سيحدث يوم القيامة .
وزلزلت الأرض أي اهتزازها واضطرابها وتحركها حركة شديدة , فينهدم كل ما عليها , ويفزع الإنسان من هول ذلك .
( وأخرجت الأرض أثقالها ) أي بأمر الله تعالى تلقي الأرض ما بداخلها من الأموات والكنوز التي لا يعلمها إلا الله فيراها الإنسان فيزداد خوفه وفزعه .
( وقال الإنسان ما لها ) هذا ما يصدر من الإنسان مما يرى من حال الأرض , فيتساءل مالها ؟ أي : ما ذا حدث لها ؟ سؤال استنكار واستعظام ما يحدث . فبعد أن كانت الأرض ساكنة ثابتة يحدث لها هذا الاضطراب الذي لم يحدث قبله بما يعرف في أحداث الزلازل الكونية التي مرت على البشر في أيام الحياة الدنيا .
( يومئذ تحدث أخبارها ) الأرض ستتحدث وتخبر عن كل ما عمله الناس على ظهرها من خير أو شر .
( بأن ربك أوحى لها ) فعندما يذهل الإنسان من حديثها , ويستعظم ذلك , يخبره الله تعالى بعلة حديثها وسببه , وهو أن الله تعالى أوحى لها وأمرها أن تتكلم وتخبر بما حدث عليها من طاعات أو معاصي .
( يومئذ يصدر الناس أشتاتا ) الصدور هو الرجوع , فيرجع الناس من موقف الحساب وهم أصنافا مختلفة , سعداء وأشقياء , مكرم إلى الجنة ومهان إلى النار .
( ليروا أعمالهم ) كل يرى ما قدم من عمل من خير أو شر .
( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) الذرة أصغر شيء يعرفه الإنسان , وهي لا ترى في العين المجردة , ومع ذلك ما كان في حجمها من الخير سيرى ثوابه عند الله . إذن ما كان أكبر فمن باب أولى سيجد عليه الجزاء أيضا حسب العمل .
( ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) أي كما يجازي على الخير ولو صغر سيجازي على الشر ولو كان حقيرا في عين فاعله . ولو كان مثقال الذرة .
من ثمرات التدبر في هذه السورة :
- عند حدوث الزلازل تحدث في جزء محدود من الأرض , لكن زلزال يوم القيامة سيحدث لكل الأرض وفي لحظة واحدة .
والإنسان عند حدوث الزلزال إذا كان يعيش في نفس المنطقة فإنه سيرى بعينيه ويسمع بأذنيه , فمع كل هزة للزلزال تهتز أعصابه وتتزلزل نفسه , قد يصل الحال بالبعض إلى الانهيار العصبي من هول الفاجعة . فكيف سيكون حاله وهو يرى الكرة الأرضية كلها تهتز وفي زلزال لم يعهد له مثيل .
لنتخيل أنفسنا في الموقف , فماذا نفعل ؟ أين المهرب ؟ لمن نلجأ ؟ ؟؟؟؟
والمقارنة بين زلزال الدنيا وزلزال أهوال يوم القيامة تجعل العاقل الآن يطير قلبه فزعا من وحل الدنيا إلى واحة الإيمان , ومن التعلق بما مصيره الفناء إلى التعلق برب الأرض والسماء ,ويكون تعلقه بربه تعلق العالم بمبدأ الأمر ونهايته , تعلق الواثق بوعد ربه , الخائف من وعيده .
- تخرج الأرض ما في بطنها من كنوز , والناس من الهول الذي هم فيه يمرون عليه ويشاهدونه , لكن من الذي يقف ويأخذ منه ؟!
لا أحد !
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( تلقي الأرض أفلاذ أكبادها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة , فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت , ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي , ويجيء السارق فيقول في هذا قطعت يدي , ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا ) .
إذن العاقل يدرك أن ما سيدير له ظهره في تلك اللحظة لأنه لن ينفعه , لا يستحق أن يتعب من أجله الآن , وليقنع بما رزقه الله . وليكن ممن يبيع دنياه لآخرته لا العكس .
- الأرض في واقع الإحساس بها ثابتة , ونحن نعيش عليها , ودورانها ثابت علما لا حساً , وفي ذلك اليوم ستهتز وتتحرك كلها ويدرك ذلك حسا , ومن يعلم بأنها ستتحرك وتهتز وتضرب ولن تبقى , ويدرك أن ما يحسبه ثابتا سيزول وما يظنه قويا سينهدم , وما اعتقده دائما سيفنى . كيف يتشبث بها تشبث الوليد الرضيع بأمه ؟!
فليخاطب كل نفسه ويذكرها بيوم الفطام .
- الأرض أطاعت ربها وامتثلت أمره فأخرجت أثقالها وتحدثت وهي لم يعهد عنها الحديث , فكل شيء يطيع الله تعالى ولا يعصيه , ما عدا بعض بني البشر العصاة ,
فيا سبحان الله العظيم الجماد يطيع ونحن نعصي !
الجماد خير منا !
لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم . وحسبنا الله ونعم الوكيل .
- ما أشد الحيرة والذهول التي تدلنا عليها الكلمة التي يتفوه بها الإنسان ( ما لها ) !
كيف سيكون حالنا حين نعاين ما بعد الزلزال ؟
كيف ستكون نفوسنا لحظة الوقوف بين يدي الله للحساب , ولما يبدأ الحساب ؟! كيف ستمر لحظات الانتظار علينا , وقد تذكرنا ما كنا نعمل , ونحن نعلم أننا سنحاسب على مثقال الذرة , وسنحاسب حتى على ما لم نتذكر مما عملنا ونسينا ؟!
- الأرض ستتحدث وتخبر بكل ما يفعله الإنسان على ظهرها من خير أو شر . وليست هي وحدها التي تشهد عليه , فالله تعالى يقول : ( ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون * حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم جلودهم بما كانوا يعملون * قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون * وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون ) [ فصلت : 19-21 ] .
ومن أصول التفسير أن ما أثبته القرآن أو نفاه فهو دليل على ضده , ومن ذلك إذن كما أن الأرض والسمع والبصر والجلود تشهد على العصاة فهي تشهد للطائعين بما يفعلون .
نسأل الله تعالى أن تكون شهادة هذه الأشياء لنا يوم القيامة لا علينا إنه سميع مجيب .
- الناس يوم القيامة يصدرون : أي يرجعون بعد الحساب للمصير والمآل , ولا يستطيع أيا من الفريقين – أهل الجنة والنار – أن يرجع مرة أخرى لتصحيح وضعه أو تغييره أو إزالته .
في الدنيا الحال دائما صادر ووارد – هذا ميت يموت وهذا مولود يولد , وهذا مسافر مغترب وهذا عائد للوطن من الغربة , هذا مريض وها قد تعافى ...... وهكذا – لكن يوم القيامة بعد الحساب الحال صادر فقط دون وارد ولا راجع .
( ليروا أعمالهم ) يريهم الله جزاء عملهم قبل دخول الجنة أو النار , وهذه الرؤية يحددها العمل , فكم في هذه الرؤية من سعادة للسعداء ! وكم فيها من عذاب للأشقياء!
- ( من يعمل مثقال ذرة ) من يقرأ هذه الآية ويتدبر معناها عليه أن لا يحتقر من العمل شيئاً .
ففي الحديث الصحيح ( لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) وروي عن أم المؤمنين عائشة رضي لله عنها تصدقت بعنبة , ومرة تصدقت بتمرة .
ولا يستهان بالصغائر فإن لها من الله طالبا , فقد روى الإمام أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لعائشة رضي الله عنها : ( يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالبا ) ويخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لن ينجو أحد إلا أن يتغمده الله برحمته , قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ) وضرب لهم مثلا كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سوادا وأججوا نارا وأنضجوا .
فلنعط العقل فرصة للتفكير والنفس فرصة للتدبر في كل ما حولنا كم عدد ذرات الخير والشر فيها ؟!
كم عملنا ؟!
كم تركنا ؟!
كم تهاونا ؟!
كم غفلنا ؟!
ثم لنعيد حساباتنا !
لنستعين بالله ونبدأ
م
ن
ق
و
ل